تفسير الاحلام

حول الرؤيا والتعبير وقواعد التعبير

بسم ال الرحمن الرحيم


الحمد ل رب العالمين وصلى ال على أجل المرسلين سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين
وعلى أصحابه الكرام المنتخبين.

حول الرؤيا والتعبير وقواعد التعبير


اعلم وفقك ال أن مما يحتاج إليه المبتدئ أن يعلم أن جميع ما يرى في المنام على قسمين :
قسم من ال تعالى وقسم من الشيطان، لقول الرسول صلى ال عليه وسلم: “الرؤيا من ال
والحلم من الشيطان” والمضاف إلى ال تعالى من ذلك هو الصالح، وإن كان جميعه أي الرؤى
الصادقة وغيرها خلقا ل تعالى، وأن الصالح من ذلك هو الصادق الذي جاء بالبشارة والنذارة،
وهو الذي قدره النبي صلى ال عليه وسلم جزءا من ستة وأربعين جزءا من النبوة.
وأن الكافرين وفساق المؤمنين قد يرون الرؤيا الصادقة، وأن المكروه من المنامات هو الذي
يضاف إلى الشيطان، والذي أمر النبي صلى ال عليه وسلم بكتمانه والتفل عن يساره ووعد
فاعل ذلك أنها ل تضره، وأن ذلك المكروه ما كان ترويعا أو تحزينا باطل أو حلما يؤدي إلى
الفتنة والخديعة والغيرة دون التحذير من الذنوب والتنبيه على الغفلت والزجر عن العمال
المهلكات، إذ ل يليق ذلك بالشيطان المر بالفحشاء وإنما إضافة أباطيل الحلم إلى الشيطان
على أنه هو الداعي إليها، وأن ال سبحانه هو الخالق لجميع ما يرى في المنام من خير أو شر
وإن الحتلم الموجب للغسل مضاف إلى الشيطان، وكذلك ما تراءى من حديث النفس وآمالها
وتخاويفها وأحزانها مما ل حكمة فيه، تدل على ما يؤول أمر رائيه إليه وكذلك ما يغشى قلب
النائم الممتلئ من الطعام أو الخالي منه كالذي يصيبه عن ذلك في اليقظة إذ ل دللة منه ول
فائدة فيه وليس للطبع فيه صنع ول للطعام فيه حكم ول للشيطان مع ما يضاف إليه منه خلق
وإنما ذلك خلق ال سبحانه قد أجرى العادة أن يخلق الرؤيا الصادقة عند حضور الملك الموكل
بها فتضاف بذلك إليه، وأن ال تعالى يخلق أباطيل الحلم عند حضور الشيطان فتضاف بذلك
إليه وأن الكاذب على منامه مفتر على ال عز وجل وأن الرائي ل ينبغي له أن يقص رؤياه إل
على عالم أو ناصح أوذي رأي من أهله كما روي في بعض الخبر.
وأن العابر يستحب له عند سماع الرؤيا من رائيها، وعند إمساكه عن تأويلها لكراهتها
ولقصور معرفته عن معرفتها، أن يقول “خير لك وشر لعدائك خير تؤتاه وشر تتوقاه”، هذا
إذا ظن أن الرؤيا تخص الرائي. وإن ظن أن الرؤيا للعالِم قال “خير لنا وشر لعدونا، خير نؤتاه
وشر نتوقاه، والخير لنا والشر لعدونا”.
وأن عبارة الرؤيا بالغدوات أحسن، لحضور فهم عابرها وتذكار رائيها، لن الفهم أوجد ما
يكون عند الغدوات من قبل افتراقه في همومه ومطالبه، مع قول النبي صلى ال عليه وسلم
“اللهم بارك لمتي في بكورها”
وأن العبارة قياس واعتبار وتشبيه وظن، ل يعتبر بها ول يختلف على عينها، إل أن يظهر في
اليقظة صدقها أو يرى برهانها. وأن التأويل بالمعنى أو باشتقاق السماء وأن العابر ل ينبغي له
أن يستعين على عبارته بزاجر في اليقظة يزجره ول يعول عند ذلك بسمعه ول بحساب
المنجمين يحسبه، وأن النبي صلى ال عليه وسلم ل يتمثل به في المنام شيطان، وأن من رآه
فقد رآه حقا، وأن الميت في دار حق فما قاله في المنام فحق، ما سلم من الفتنة والغرة، وكذلك
الطفل الذي ل يعرف الكذب، وكذلك الدواب وسائر الحيوان العجم إذا تكلم فقوله حق. وكلم ما
ل يتكلم آية وأعجوبة. وكل كذاب في اليقظة كالمنجم والكاهن، فكذلك قوله في المنام كذب. وأن
الجنب والسكران ومن غفل من الجواري والغلمان قد تصدق رؤياهم في بعض الحيان، وإن
تسلط الشيطان عليهم بالحلم في سائر الزمان. وأن الكذاب في أحاديث اليقظة قد يكذب عامة
رؤياه، وأصدق الناس رؤيا أصدقهم حديثا.
وأن العابر ل يضع يده من الرؤيا إل على ما تعلقت أمثاله ببشارة أو نذارة أو تنبيه أو منفعة
في الدنيا والخرة، ويطرح ما سوى ذلك لئل يكون ضغثا أو حشوا مضافا إلى الشيطان. وأن
العابر يحتاج إلى اعتبار القرآن وأمثاله ومعانيه وواضحه، كقوله تعالى في الحبل:}واعتصموا
بحبل ال جميعا{ )آل عمران 103(. وقوله في صفات النساء: }بيض مكنون{)الصافات 49(.
وقوله في المنافقين: }كأنهم خشب مسندة{)المنافقون 4(. وقوله: }إن الملوك إذا دخلوا قرية
أفسدوها{)النمل 34(. وقوله: }إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح{)النفال 19(. وقوله: }أيحب
أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا{)الحجرات 12(.
وأنه أيضا يحتاج إلى معرفة أمثال النبياء والحكماء، وأنه يحتاج أيضا إلى اعتبار أخبار رسول
ال صلى ال عليه وسلم وأمثاله في التأويل كقوله: “خمس فواسق” وذكر الغراب والحدأة
والعقرب والفأرة والكلب العقور، وقوله في النساء: “إياك والقوارير”، وقوله في المرأة
“خلقت من ضلع.”
ويحتاج العابر أيضا إلى المثال المبتذلة كقول إبراهيم عليه السلم لسماعيل: “غَيّر أسكفة
الباب” أي طلق زوجتك، وقول المسيح عليه السلم وقد دخل على مومسة يعظها: “إنما يدخل
الطبيب على المريض” يعني بالطبيب العالم وبالمريض المذنب الجاهل، وقول لقمان لبنه:
“بَدّل فراشك” يعني زوجتك، وقول أبي هريرة، حين سمع قائل يقول “خرج الدجال”، فقال:
“كذبة كذبها الصباغون” يعني الكذابين.
وأنه محتاج مع الرجز والشعر إلى اعتبار معانيه ليقوى بذلك على معاني أمثال المنام كقول
الشاعر:
وداع دعاني للندى وزجاجة تحسيتها لم يعن ماء ول خمرا
يعني بالداعي دعوة الغناء، وبالزجاجة فم المرأة
وكقول الخر:
ليس للنرجس عهد إنما العهد للس
وكقول الخر:
أنت ورد وبقاء ال ورد شهر ل شهور
وهواي الس و الس على الدهر صبور
فينسبه بذلك إلى قلة بقاء الورد والنرجس، ودوام الس وبقائه، ويتأول ذلك بذلك في الرؤيا إذا
جاء فيها.
وأنه محتاج إلى اشتقاق اللغة ومعاني السماء، كالكفر أصله التغطية، والمغفرة أصلها الستر،
والظلم وضع الشيء في غير موضعه، والفسق الخروج والبروز، ونحو ذلك.
وأنه محتاج إلى إصلح حاله وطعامه وشرابه وإخلصه في أعماله ليرث بذلك حسن التوسم
في الناس عند التعبير.
وأن الرؤيا الصادقة قسمان: قسم مفسر ظاهر ل يحتاج إلى تعبير ول تفسير، وقسم مكني
مضمر تودع فيه الحكمة في جواهر مرئياته. وما كان له طبع في الصيف وطبع في الشتاء،
عبر عنه في كل حين يرى فيه بطبع وقته وجوهره وعادته في ذلك الوقت، كالشجر والثمر
والبحر والنار والملبس والمساكن والحيات والعقارب. وما كان له طبع بالليل وطبع بالنهار،
عبر عنه في رؤيا الليل بطبعه وفي رؤيا النهار بعادته، كالشمس والقمر والكواكب والسرج
والنور والظلمة والقنافذ والخفاش، وأمثال ذلك.
ومن كانت له في الناس عادة، لزمته من المرئيات في سائر الزمان، أو في وقت منها دون
وقت، ترك فيها عادته التي عوده ربه تعالى كالذي اعتاد أكل اللحم في المنام: أكله. وإذا رأى
الدراهم دخلت عليه واستفاد مثلها في اليقظة، وإذا رأى المطار رآها في اليقظة. أو يكون
عادته في ذلك وفي غيره على ضده خلف ما في الصول.
وكل ماله في الرؤيا وجهان وجه يدل على الخير ووجه يدل على الشر، أعطى لرائيه من
الصالحين أحسن وجهيه، وأعطى لرائيه من الطالحين أقبحهما. وإن كان ذلك المرئي ذا وجوه
كثيرة متلونة متضادة متنافية مختلفة، لم يصر إلى وجه منها دون سائرها إل بزيادة شاهد،
وقيام دليل من ضمير الرائي في المنام، أو من دليل المكان الذي رأى نفسه فيه.
وأن الرؤيا تأتي على ما مضى وخل وفرط وانقضى، فتذكر عنه بغفلة عن الشكر قد سلفت، أو
بمعصية فيه قد فرطت، أو بتباعة منه قد بقيت، أو بتوبة منه قد تأخرت. وقد تأتي عما النسان
فيه. وقد تأتي عن المستقبل، فتخبر عما سيأتي من خير أو شر، كالموت والمطر والغنى والفقر
والعز والذل والشدة والرخاء.
وأن أقدار الناس قد تختلف في بعض التأويل حسب اختلفها في نقصانها في الجدود والحظوظ،
وإن تساووا في الرؤيا فل يجيد تعبير ذلك المرئي الذي يتفقون في رؤيته في المنام. إل واسع
المعاني متصرف الوجوه، كالرمانة ربما كانت للسلطان كورة يملكها، أو مدينة يلي عليها،
يكون قشرها جدارها أو سورها، وحبها أهلها؛ وتكون للتاجر داره التي فيها أهله، أو حمامه،
أو فندقه، أو سفينته الموقرة بالناس والموال في وسط الماء، أو دكانه العامر بالناس، أو
كتابه المملوء بالغلمان، أو كيسه الذي فيه دراهمه ودنانيره؛ وقد تكون للعالم أو للعابد الناسك
كتابه ومصحفه، وقشرها أوراقه، وحبها كتابه الذي به صلحه؛ وقد تكون للعزب زوجة
بمالها وجمالها، أو جارية بخاتمها يلتذ بها حين افتضاضها؛ وقد تكون للحامل ابنة محجوبة في
مشيمتها ورحمها ودمها؛ وربما كانت في مقادير الموال بيت مال السلطان وبدرة للعمال،
وألف دينار لهل اليسار، ومائة دينار للتجار، وعشرة للمتوسط، ودرهما للفقير، وخروبة
للمسكين، أو رغيف خبز أو مدا من الطعام، أو رمانة كما رآها، لنها عقدة من العقد تحل في
العتبار والنظر والقياس في المثال المضروبة للناس على القدار والجناس. وما كان من
الشجرة ذات السيقان والشعب والمعرفة بالفريقين، فأكرمها عرب وما كان منها ل ساق لها
كاليقطين ونحوه، فهو من العجم، أو من ل حسب له، كالمطروح والحميل واللقيط. وبذلك
يوصل إلى فوائد الزوائد وعوائدها. وربما رأى النسان الشيء فعاد تأويله إلى شقيقه أو ربيبه
أو سميه أو نسيبه أو صديقه أو جاره أو شبيهه في فن من الفنون. وإنما يشرك بين الناس في
الرؤيا بوجهين من هذه السباب، كمن يتفق معه في النسب الواحد كشقيقه لشتراكه معه في
البوة والنسب والبطن، وكسميه وجاره ونظيره. فل تصح الشركة إل بوجهين فصاعدا. وليس
تنقل الرؤيا أبدا برأسها عمن رئيت له إل أن تليق به معانيها، ول يمكن أن ينال مثله موجبها
ول أن ينزل به دليلها أو يكون شريكه فيها أحق بها منه بدليل يرى عليه وشاهد في اليقظة
والنظر يزيد عليه، كدللة الموت ل تنقل عن صاحبها إل أن يكون سليم الجسم في اليقظة
وشريكه مريضا، فيكون لمرضه أولى بها منه لدنوه من الموت واشتراكه معه في التأويل.
فلذلك يحتاج العابر إلى أن يكون كما وصف أديبا ذكيا فطنا نقيا تقيا عارفا بحالت الناس
وشمائلهم وأقدارهم وهيئاتهم، يراعي ما تتبدل مرائيه، وتتغير فيه عبارته، عند الشتاء إذا
ارتحل، ومع الصيف إذا دخل، عارفا بالزمنة وأمطارها، ونفعها ومضارها، وبأوقات ركوب
البحار وأوقات ارتجاجها، وعادة البلدان وأهلها، وخواصها، وما يناسب كل بلدة منها وما
يجيء من ناحيتها، كقول القتيبي في “الجاورس” ربما دل على قدوم غائب من اليمن، لن
شطر اسمه جا والورس ل يكون إل من اليمن”، عارفا بتفصيل المنامات الخاصية من العامية
فيما يراه النسان من المرئيات التي تجمع العالم والخلق في نفعها كالسماء والشمس والقمر
والكواكب والمطر والريح والجوامع والرحاب، فما رآه في منامه من هذه الشياء، خاليا فيه
مستبدا به، أو رآه في بيته فهو له في خاصيته.
وقد قالت القدماء من غلبت عليه السوداء رأى الحداث والسواد والهوال والفزاع، وإن غلبت
عليه الصفراء رأى النار والمصابيح والدم والمعصفر، وإن غلب عليه البلغم رأى البياض
والمياه والنداء والمواج، وإن غلب عليه الدم رأى الشراب والرياحين والعزف والصفق
والمزامير.
وقد روي عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال: “الرؤيا ثلثة فرؤيا بشرى من ال تعالى
ورؤيا من الشيطان، ورؤيا يحدث بها النسان نفسه فيراها”. وقال النبي صلى ال عليه وسلم:
“ذهبت النبوة وبقيت المبشرات”، وقد قال بعض المفسرين في قوله عز وجل }لهم البشرى
في الحياة الدنيا{)يونس 64( قال : هي الرؤيا الصالحة. وقيل : إن العبد إذا نام وهو ساجد،
يقول ربنا عز وجل “انظروا إلى عبدي، روحه عندي وجسده، في طاعتي”. وروي عن أبي
الدرداء قال : “إذا نام الرجل عرج بروحه إلى السماء حتى يؤتى بها العرش، فإن كان طاهرا
أذن لها بالسجود وإن كان جنبا لم يؤذن لها في السجود”.
وقد اختلف الناس في النفس والروح فقال بعضهم : هما شيء واحد مسمى باسمين، كما يقال
إنسان ورجل. وهما الدم أو متصلن بالدم، يبطلن بذهابه. والدليل على ذلك أن الميت ل يفقد
من جسمه إل دمه، واحتجوا لذلك أيضا من اللغة بقول العرب نفست المرأة، إذا حاضت،
ونفست من النفس، وبقولهم للمرأة عند ولدتها نفساء، لسيلن النفس وهو الدم، وربما لم يزل
جاريا على ألسنة الناس من قولهم سالت نفسه إذا مات. قال أوس بن حجر :
نبئت أن بنى سحيم أدخلوا أبياتهم تامور نفس المنذر
والتامور : الدم. أراد : قتلوه، فأضاف الدم إلى النفس لتصالها به.
وقال آخرون : هما شيئان فالروح باردة والنفس حارة. ولهذا النفخ يكون من الروح ولذلك تراه
باردا بخلف النفس من النفس فإنه سخين. وسمّت العرب النفخ روحا لنه من الروح. يكون
على مذهبهم في تسمية الشيء بما كان متصل به وسببا له، فيقول للنبات ندى لنه بالندى
يكون، ويقولون للمطر سماء لنه من السماء ينزل، قال ذو الرمة لقادح نار:
فقلت له ارفعها إليك وأحيها بروحك واجعلها لها قنية قدرا
يريد : أحيها بنفخك.
وانشد بعض البغداديين:
وغلم أرسلته أمه بأشاحين وعقد من ملح
تبتغي الروح فأسعفنا بها وشفاء ماء عين في قدح
وهذه امرأة استرقت لولدها فابتغت الروح أي في نفخ الراقي إذا نفث في ماء من ماء العيون.
وأخذوا النفس من النفس وقالوا للنفس نسمة، يقال على فلن عتق نسمة، أي عتق نفس وال
عز وجل يقول : }ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إل
قليل{)السراء 85(.
وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن الروح روح الحياة في هذه المواضع، وذهب بعض المفسرين
إلى أنه ملك من الملئكة، يقوم صفا وتقوم الملئكة صفا، فإن كان المر على ما ذكر الولون،
فكيف يتعاطى علم شيء استأثر ال عز وجل به ولم يطلع عليه رسول ال صلى ال عليه
وسلم، وقد امتحن بالسؤال عنه ليكون له شاهدا ولنبوته علما ؟
قال ابن قتيبة لما كانت الرؤيا على ما أعلمتك من خلف مذاهبها، وانصرافها عن أصولها
بالزيادة الداخلة والكلمة المعترضة، وانتقالها عن سبيل الخير إلى سبيل الشر باختلف الهيئات
واختلف الزمان والوقات، وأن تأويلها قد يكون مرة من لفظ السم، ومرة من معناه، ومرة
من ضده، ومرة من كتاب ال تعالى، ومرة من الحديث، ومرة من المثل السائر والبيت
المشهور، احتجت أن أذكر، قبل ذكر الصول، أمثلة في التأويل لرشدك بها إلى السبيل :
فأما التأويل بالسماء، فتحمله على ظاهر اللفظ، كرجل يسمى الفضل، تتأوله أفضال. ورجل
يسمى راشدا، تتأوله رشادا أو رشدا. أو سالما، تتأوله السلمة. وأشباه هذا كثيرة. وقد روى
عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال: “رأيت الليلة كأنا في دار عقبة بن رافع، فأتينا برطب
ابن طاب، فأولت : الرفعة لنا في الدنيا والخرة وأن ديننا قد طاب” فأخذ من رافع الرفعة وأخذ
طيب الدين من رطب ابن طاب. وحكي عن شريك بن أبي شمر قال : رأيت أسناني في النوم
وقعت، فسألت عنها سعيد بن المسيب فقال : أو ساءك ذلك ؟ إن صدقت رؤياك لم يبق من
أسنانك أحد إل مات قبلك. فعبرها سعيد باللفظ ل بالصل، لن الصل في السنان أنها القرابة.
وحكي عن بشر بن أبي العالية قال : سألت محمدا عن رجل رأى كأن فمه سقط كله فقال : هذا
رجل قطع قرابته. فعبرها محمد بالصل ل باللفظ.. وحكي عن الصمعي قال : اشترى رجل
أرضا فرأى أن ابن أخيه يمشي فيها فل يطأ إل على رأس حية. فقال : إن صدقت رؤياه لم
يغرس فيها شيء إل حيي. قال : وربما اعتبر السم إذا كثرت حروفه بالبعض على مذهب
القائف والزاجر. مثل السفرجل إذا رآه ولم يكن في الرؤيا ما يدل على أنه مرض تأوله سفرا
لن شطره سفر. وكذلك السوسن إن عدل به عما ينسب إليه في التأويل وحمل على ظاهر اسمه
تأول فيه السوء، لن شطره سوء. قال الشاعر:
وسوسنة أعطيتها فما كنت بإعطائي لها محسنه
أولها سوء فإن جئت بالخر منها فهو سوء سنه
وأما التفسير بالمعنى فأكثر التأويل عليه كالترج إن لم يكن مال وولدا عبر بالنفاق لمخالفة
ظاهره وباطنه قال الشاعر:
أهدى له أحبابه أترجة فبكى وأشفق من عيافة زاجر
متعجبا لما أتته وطعمها لونان باطنها خلف الظاهر
وأما التأويل بالمثل السائر واللفظ المبتذل، فكقولهم في الصائغ إنه رجل كذوب لما جرى على
ألسنة الناس من قولهم فلن يصوغ الحاديث. وكقولهم فيمن يرى أن في يديه طول أنه يصنع
المعروف، لما جرى على ألسنة الناس من قولهم هو أطول يدا منك وأمد باعا أي أكثر عطاء،
وقال النبي صلى ال عليه وسلم لزواجه رضى ال عنهن: “أسرعكن لحوقا بي أطولكن يدا”.
فكانت زينب بنت جحش أول أزواجه موتا وكانت تعين المجاهدين وترفدهم. وكقولهم في
المرض إنه نفاق لما جرى على ألسنة الناس لمن ل يصح لك وعده “هو مريض في القول
والوعد”، وقال ال عز وجل : }في قلوبهم مرض فزادهم ال مرضا{)البقرة 10(، أي نفاقا
وكقولهم في المخاط أنه ولد لما جرى على ألسنة الناس من قولهم لمن أشبه أباه هو مخطته
والهر مخطة السد، وأصل هذا أن السد كان حمله نوح عليه السلم في السفينة فلما آذاهم
الفأر دعا ال تعالى نوح فاستنثر السد فخرجت الهرة بنثرته وجاءت أشبه شيء به. وكقولهم
فيمن رمى الناس بالسهام أو البندق أو حذفهم أو قذفهم بالحجارة إنه يذكرهم ويغتابهم لما
جرى على ألسنة الناس من قولهم رميت فلنا بالفاحشة وقال تعالى: }والذين يرمون
المحصنات{)النور 4( و }والذين يرمون أزواجهم{)النور 6(. وكقولهم فيمن قطعت أعضاؤه
إنه يسافر ويفارق عشيرته أو ولده في البلد لما جرى على ألسنة الناس من قولهم تقطعوا في
البلد وال عز وجل يقول في قوم سبأ: }ومزقناهم كل ممزق{)سبأ 19(. وقال: }وقطعناهم في
الرض أمما{)العراف 168( وكقولهم في الجراد إنها في بعض الحوال غوغاء الناس لن
الغوغاء عند العرب الجراد وكقولهم فيمن غسل يديه بالشنان أنه اليأس من شيء يطلبه لقول
الناس لمن ييأس منه “قد غسلت يدي منك بأشنان”. قال الشاعر:
واغسل يديك بأشنان وأنقهما غسل الجنابة من معروف عثمان
لعل مراده أن غسل الجنابة هو من الصفات التي عرف بها عثمان رضي ال عنه، أي واظب
عليها، وال أعلم.
وكقولهم في الكبش إنه رجل عزيز منيع، لقول الناس : هذا كبش القوم وكقولهم في الصقر أنه
رجل له شجاعة وشوكة لقول الناس هو صقر من الرجال. قال أبو طالب:
تتابع فيها كل صقر كأنه إذا ما مشى في رفرف الدرع أجرد
وأما التأويل بالضد والمقلوب، فكقولهم في البكاء أنه فرح، وفي الضحك أنه حزن. وكقولهم في
الرجلين يصطرعان والشمس والقمر يقتتلن، إذا كانا من جنس واحد أن المصروع هو الغالب
والصارع هو المغلوب. وفي الحجامة أنها صك وشرط، وفي الصك أنه حجامة. وقولهم في
الطاعون أنه حرب وفي الحرب أنه طاعون، وفي السيل أنه عدو وفي العدو أنه سيل، وفي أكل
التين أنه ندامة وفي الندامة أنها أكل تين، وفيمن يرى أنه مات ولم يكن لموته هيئة الموت من
بكاء أو حفر قبر أو إحضار كفن أنه ينهدم بعض داره. وقولهم في الجراد أنه جند وفي الجند
أنه جراد.
وأما تعبير الرؤيا بالزيادة والنقصان، فكقولهم في البكاء أنه فرح، فإن كانت معه رنة كان
مصيبة. وفي الضحك أنه حزن، فإن كان تبسما كان صالحا. وقولهم في الجوز أنه مال مكنوز،
فإن كانت معه قعقعة، فإنه خصومة. وفي الدهن إذا أخذ منه بقدر فإنه زينة، فإن سال على
الوجه فإنه غم، وإن كثر على الرأس كان مداهنة للرئيس. وفي الزعفران أنه ثناء حسن، فإن
ظهر له لون في ثوب أو جسد فهو مرض أو وهم. وفي الضرب أنه كسوة فإن ضرب وهو
مكتوف فهو ثناء سوء يثنى عليه ل يمكنه دفعه. ولمن يرى أن له ريشا فهو رياش وخير، فإن
طار بجناحه سافر سفرا في سلطان بقدر ما عل عن الرض وفيمن يرى أن يده قطعت وهي
معه قد أحررها أنه يستفيد أخا أو ولدا، فإن رأى أنها فارقته وسقطت فإنها مصيبة في أخ أو
ولد. وفي المريض أنه يرى أنه صحيح يخرج من منزله ول يتكلم أنه يموت فإن تكلم فإنه يبرأ.
وفي الفأر أنها نساء ما لم تختلف ألوانها فإن اختلفت فكان فيها البيض والسود فهي الليالي
واليام. وفي السمك إذا عرف النسان عدده إنه نساء فإذا كثر عدده فهو مال وغنيمة.
وقد تعبر الرؤيا بالوقت، كقولهم في راكب الفيل أنه ينال أمرا جسيما قليل المنفعة، فإن رأى
ذلك في نور النهار طلق امرأته أو أصابه بسببها سوء وفي الرخمة إنها إنسان أحمق قذر.
وأصدق الرؤيا بالسحار وبالقائلة، وأصدق الوقات وقت انعقاد النوار ووقت ينع الثمر
وإدراكه. وأضعفها الشتاء. ورؤيا النهار أقوى من رؤيا الليل. وقد تتغير الرؤيا عن أصلها
باختلف هيئات الناس وصناعاتهم وأقدارهم وأديانهم فتكون لواحد رحمة وعلى آخر عذابا.
ومن عجيب أمر الرؤيا أن الرجل يرى في المنام أن نكبة نكبته وأن خيرا وصل إليه فتصيبه تلك
النكبة بعينها ويناله ذلك الخير بعينه. وفي الدراهم إذا رأوها أن يصيبوها، وفي الولية إذا
رأوها أن يلوها، وفي الحج إذا رأوه أن يحجوا، وفي الغائب يقدم في المنام فيقدم في اليقظة.
وربما رأى الصبي الصغير الشيء فكان لحد أبويه، والعبد فكان لسيده، والمرأة فكان لبعلها أو
لهل بيتها. وحكي أن عمر بن الخطاب رضوان ال عليه وجه قاضيا إلى الشام، فسار ثم رجع
من الطريق، فقال له : ما ردك ؟ قال : رأيت في المنام كأن الشمس والقمر يقتتلن وكأن
الكواكب بعضها مع الشمس وبعضها مع القمر. قال عمر : مع أيهما كنت ؟ قال : مع القمر. قال
: انطلق، ل تعمل لي عمل أبدا ، ثم قرأ: }فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة{ )السراء
12(. فلما كان يوم صفين، قتل الرجل مع أهل الشام. وبلغني أن الرجل هو جابر بن سعيد
الطائي. حدث إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال : كنت عند يزيد بن مزيد فقال : إني رأيت رؤيا
عجيبة. ودعا بعابر فقال : رأيت كأني أخذت طيطوى لذبحه فأمررت السكين على حلقه ثلث
مرات فانقلبت ثم ذبحته في الرابعة. فقال : رأيت خيرا، هذه بكر عالجتها فلم تقدر عليها ثلث
مرات ثم قدرت عليها في الرابعة. قال : نعم. وصغا إليه فقال : في الرؤيا شيء. قال : ما هو ؟
قال : كانت هناك ضريطة من الجارية. قال : صدقت وال، فكيف علمت ؟ قال : إن اسم الطائر
طيطوى.
قال ابن قتيبة رضى ال عنه : يجب على العابر التثبت فيما يرد عليه وترك التعسف، ول يأنف
من أن يقول لما يشكل عليه ل أعرفه، وقد كان محمد بن سيرين إمام الناس في هذا الفن، وكان
ما يمسك عنه أكثر مما يفسر. وحدث الصمعي عن أبي المقدام أو قرة بن خالد قال : كنت
أحضر ابن سيرين يسأل عن الرؤيا فكنت أحزره يعبر من كل أربعين واحدة.
قال ابن قتيبة : وتفهم كلم صاحب الرؤيا وتبينه، ثم اعرضه على الصول، فإن رأيته كلما
صحيحا يدل على معان مستقيمة يشبه بعضها بعضا، عبرت الرؤيا بعد مسألتك ال تعالى أن
يوفقك للصواب. وإن وجدت الرؤيا تحتمل معنيين متضادين، نظرت أيهما أولى بألفاظها وأقرب
من أصولها فحملتها عليه. وإن رأيت الصول صحيحة وفي خللها أمور ل تنتظم، ألقيت
حشوها وقصدت الصحيح منها. وإن رأيت الرؤيا كلها مختلطة ل تلتئم على الصول، علمت
أنها من الضغاث فأعرض عنها. وإن اشتبه عليك المر سألت ال تعالى كشفه ثم سألت الرجل
عن ضميره في سفره إن رأى السفر وفي صيده إن رأى الصيد وفي كلمه إن رأى الكلم ثم
قضيت بالضمير، فإن لم يكن هناك ضمير أخذت بالشياء على ما بينت لك.
وقد تختلف طبائع الناس في الرؤيا، ويجرون على عادة فيها فيعرفونها من أنفسهم، فيكون
ذلك أقوى من الصل، فينزل على عادة الرجل ويترك الصل. وقد تصرف الرؤيا عن أصلها من
الشر بكلم الخير والبر، وعن أصلها من الخير بكلم الرفث والشر. فإن كانت الرؤيا تدل على
فاحشة وقبيح سترت ذلك ورويت عنه بأحسن ما تقدر على ذلك من اللفظ وأسررتها إلى
صاحبها، كما فعل ابن سيرين حين سئل عن الرجل الذي يفقأ بيضا من رؤوسه فيأخذ بياضه
ويدع صفرته. فإنك لست من الرؤيا على يقين وإنما هو حدس وترجيح الظنون، فإذا أنت
أخبرت السائل بقبح ألحقت به شائبة لعلها لم تكن ولعله إن كانت منه أن يرعوي ول يعود.
واعلم أن أصل الرؤيا جنس وصنف وطبع. فالجنس كالشجر والسباع والطير، وهذا كله الغلب
عليه أنه رجال. والصنف أن يعلم صنف تلك الشجرة من الشجر، وذلك السبع من السباع، وذلك
الطائر من الطيور. فإن كانت الشجرة نخلة كان ذلك الرجل من العرب، لن منابت أكثر النخل
من بلد العرب. وإن كان الطائر طاووسا كان رجل من العجم. وإن كان ظليما كان بدويا من
العرب. والطبع أن تنظر ما طبع تلك لشجرة فتقضى على الشجرة بطبعها. فإن كانت الشجرة
جوزا قضيت على الرجل بطبعها بالعسر في المعاملة والخصومة عند المناظرة. وإن كانت نخلة
قضيت عليها بأنها رجل نفاع بالخير مخصب سهل، حيث يقول ال عز وجل : }كشجرة طيبة
أصلها ثابت وفرعها في السماء{)ابراهيم 24(، يعني النخلة. وإن كان طائرا علمت أنه رجل ذو
أسفار كحال الطير. ثم نظرت ما طبعه، فإن كان طاووسا كان رجل أعجميا ذا جمال ومال،
وكذلك إن كان نسرا كان ملكا، وإن كان غرابا كان رجل فاسقا غادرا كذابا لقول النبي صلى ال
عليه وسلم ولن نوحا عليه السلم بعث به ليعرف حال الماء أنضب أم ل فوجد جيفة طافية
على الماء فوقع عليها ولم يرجع فضرب به المثل، وقيل لمن أبطأ عليك أو ذهب فلم يعد إليك
“غراب نوح”، وإن كان عقعقا كان رجل ل عهد له ول حفظ ول دين، قال الشاعر:
أل إنما حملتم المر عقعقا له نحو علياء البلد حنين
وإن كان عقابا كان سلطانا محاربا ظالما عاصيا مهيبا، كحال العقاب ومخالبه وجثته وقوته
على الطير وتمزيقه لحومه.
وينبغي لصاحب الرؤيا أن يتحرى الصدق، ول يدخل في الرؤيا ما لم ير فيها فيفسد رؤياه
ويغش نفسه ويجعل عند ال تعالى من الثمين. وروي عن علي بن أبي طالب رضى ال عنه
أنه قال : “ل رؤيا للخائف إل ما يحب”، يعني في تأويلها بفرج أمره وذهاب خوفه.
ومن الناس من يرى أنه أصاب وسقا من التمر فيصيب من المال مائة درهم، وآخر قد يرى
مثله فيصيب ألف درهم، وآخر يرى مثله فهو له حلوة دينه وصلحه فيه، وذلك من همة
الرجال وأقدارها وإيثارها أمر دينها. ومنهم من يرى أنه أصاب من النبق عشرا فيصيب من
الورق عشرة دراهم، وآخر يرى مثله فيصيب ألف درهم، وذلك من مجرى قدرهما وطبيعتهما.
وأصدق الرؤيا رؤيا ملك أو مملوك.
وربما لم توافق طبيعة النسان في منامه موضعا معلوما يعرفه بعينه أو محلة أو دارا أو رجل
أو امرأة جميلة أو قبيحة أو معروفة أو مجهولة أو طائرا أو دابة أو علما أو صوتا أو طعاما أو
شرابا أو سلحا أو نحوه، فهو به مولع كلما رآه في منامه أصابه هم أو خوف أو بكاء أو
مصيبة أو شخوص أو غير ذلك مما يكره، وهو فيما سواه من الرؤيا بمنزلة غيره من الناس
في تأويلها وأمثالها. وربما وافقت طبيعة النسان في منامه بعض ما وصفت من ذلك فهو به
مولع كلما رآه في منامه أصاب خيرا أو مال أو ظفرا أو غير ذلك مما يحب، وهو فيما سواه من
الرؤيا بمنزلة غيره من الناس في تأويلها.
وقد يكون النسان صدوقا في حديثه فتصدق رؤياه، ويكون كذابا في حديثه ويحب الكذب فتكذب
عامة رؤياه، ويكون كذابا ويكره الكذب من غيره فتصدق رؤياه لذلك.
ورؤيا الليل أقوى من رؤيا النهار، وأصدق ساعات الرؤيا بالسحار. وإذا كانت الرؤيا قليلة
جامعة ليس فيها حشو الكلم وكثرته فهي أنفذ وأسرع وقوعا.
وإياك إياك أن تحرف مسألة عن وجه تأويلها المعروف في الصول أو تجاوز بها حدها المعلوم
رغبة منك أو رهبة، فيحق عليك بالكذب ويعمى عليك سبيل الحق فيه، بل يسعك السكوت إن
كرهت الكلم به.
وإذا رأيت في منامك ما تكرهه فاقرأ إذا انتبهت من نومك آية الكرسي ثم اتفل عن يسارك وقل :
” أعوذ برب موسى وعيسى وإبراهيم الذي وفى ومحمد المصطفى من شر الرؤيا التي رأيتها
أن تضرني في ديني ودنياي ومعيشتي عز جاره وجل ثناؤه ول إله غيره”.
واعرف الزمنة في الدهر. فإذا كانت الشجرة عند حملها ثمارها، فإن الرؤيا في ذلك الوقت
مرجوة قوية فيها بطء قليل. وإذا كانت الرؤيا عند إدراك ثمر الشجرة ومنافعها واجتماع أمرها،
فإن الرؤيا عند ذلك أبلغ وأنفذ وأصح وأوفق. وإذا أورقت الشجرة ولم يطلع ثمارها، فإن الرؤيا
عند ذلك دون ما وصفت في القوة والبقاء دون الغاية. وإذا سقط ورقها وذهب ثمرها، فإن
الرؤيا عند ذلك أضعف والضغاث والحلم فيها عند ذلك أكثر.
وإذا وردت عليك من صاحب الرؤيا في تأويل رؤياه عورة قد سترها ال عليه، فل تجبه منها
بما يكره أن يطلع عليه مخلوق غيره إن كان مبتلى ل حيلة له، ولكن عرض له حتى يعلمها، إل
أن يكون له من ذلك مخرج أو يكون مصرا على معصية ال أو قد هم بها، فعظه عند ذلك
واستر عليه كما أمر ال تعالى. واستر ما يرد عليك من الرؤيا في التأويل من أسرار المسلمين
وعوراتهم، ول تخبر بها إل صاحبها ول تنطق بها عند غيره ول تحكها عنه ول تسمعه فيها
إن ذكرتها، ول تحك عن أحد مسألة رؤيا إن كانت فيها عورة يكرهها، فإنك إن فعلت ذلك
اغتبت صاحبها. ول تصدرن رأيك في مسألة حتى تفتشها وتعرف وجهها ومخرجها وقدرها
واختلف الطبائع التي وصفت لك، فإنك عند ذلك تبصر ما عمل الشيطان في تخليطها وفسادها
عليك وإدخال الشبهات والحشو فيها. فإن أنت صفيتها من هذه الفات التي وصفت لك ووجدت
ما يحصل من كلم تأويل صحيحا مستقيما موافقا لحكمة فذلك تأويلها صحيح. وقد بلغني أن ابن
سيرين كان يفعل كذلك. وإذا وردت عليه رؤيا مكث فيها مليا من النهار يسأل صاحبها عن حاله
ونفسه وصناعته وعن قومه ومعيشته وعن المعروف عنده من جميع ما يسأله عنه والمجهول
منه ول يدع شيئا يستدل به ويستشهد به على المسألة إل طلب علمه.
واعلم أن نفاذك في علم الرؤيا بثلثة أصناف من العلم ل بد لك منها :
أولها: حفظ الصول ووجوهها واختلفها وقوتها وضعفها في الخير أو في الشر، لتعرف وزن
كلم التأويل ووزن الصول في الخفة والرجحان والوثائق فيما يرد من المسائل؛ فإن تكن
مسألة يدل بعضها على الشر وبعضها على الخير، زن المرين والصلين في نفسك وزنا على
قوة كل أصل منهما في أصول التأويل، ثم خذ بأرجحهما وأقواهما في تلك الصول.
والثاني: تأليف الصول بعضها إلى بعض حتى تخلصها كلما صحيحا على جوهر أصول
التأويل وقوتها وضعفها وتطرح عنها من الضغاث والتمني وأحزان الشيطان وغيرها مما
وصفت لك، أو يستقر عندك أنها ليست رؤيا ول يلتئم تأويلها فل تقبلها.
والثالث: شدة فحصك وتثبتك في المسألة حتى تعرفها حق معرفتها، وتستدل من سوى الصول
بكلم صاحب الرؤيا ومخارجه ومواضعه على تلخيصها وتحقيقها وذلك من أشد علم تأويل
الرؤيا صعوبة كما يزعمون. وفي ذلك ما يكون من العلم بالصول وبذلك يستخرج ويتوصل
العابر، وإل فالقتداء بالماضين من النبياء والرسل والحكماء في ذلك أقرب إلى الصواب إن
شاء ال تعالى، فافهم.
وإن أردت أن تفهم وزن كلم الرؤيا في رجحان وزنه وخفته فاستدل بمسألة بلغني فيها عن
ابن سيرين أن امرأة سألته أنها رأت في منامها رجل مقيدا مغلول فقال لها : ل يكون هذا لن
القيد ثبات في الدين وإيمان والغل خيانة وكفر ول يكون المؤمن كافرا. قالت المرأة : قد وال
رأيت هذه الرؤيا بحال حسنة وكأني أنظر إلى الغل في عنقه في ساجور. فلما سمع بذكر
الساجور قال لها : نعم قد تعرفت الن، لن الساجور من خشب والخشب في المنام نفاق في
الدين كما قال تعالى في المنافقين : }كأنهم خشب مسندة{)المنافقون 4(، فصار الساجور والغل
جميعا، وكل واحد منها تأويله نفاق وخيانة وكفر وهما في أمثال التأويل أقوى من القيد وحده
وليس معه شاهد يقويه، فهذا رجل يدعى إلى غير أبيه أو إلى غير قومه ويدعى إلى العرب
وليس منهم. قالت المرأة : إنا ل وإنا إليه راجعون.
وهكذا كل مسألة من الرؤيا معها شاهد أو شاهدان تدل على تحقيق التأويل، كما قال ال تعالى
يحكى رؤيا فرعون يوسف }إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف{)يوسف 43( إلى
آخر الية، فالبقرات السمان هي السنون الخصبة، والعجاف هي السنون الجدبة، وقال }وسبع
سنبلت خضر وأخر يابسات{)يوسف 43( وهي السنون المسماة في تأويل البقرات ولكنها
صارت شاهدات لتحقيق هذه السنين في البقرات كما صار الساجور شاهدا للغل بتحقيق الخيانة
والكفر .
وليس نوع من العلم مما ينسب إلى الحكمة إل يحتاج إليه في تأويل الرؤيا، حتى الحساب،
وحتى الفرائض والحكام، والعربية وغرابتها لمعاني السماء وغيرها وما فيها من أمثال
الحكمة وشرائع الدين والمناسك والحلل والحرام والصلة والوضوء وغير ذلك من العلم،
والختلف فيه يقاس عليه ويؤخذ منه.
فليكن ما في يدك من الصول المفسرة لك أوفق عندك مما يأتيك به صاحب الرؤيا ليزيلك عنها
وإن كان ثقة صدوقا عندك. واعلم أنه لم يتغير من أصول الرؤيا القديمة شيء، ولكن تغيرت
حالت الناس في هممهم وآدابهم وإيثارهم أمر دنياهم على أمر آخرتهم. فلذلك صار الصل
الذي كان تأويله همة الرجل وبغيته، وكانت تلك الهمة دينه خاصة دون دنياه، فتحولت تلك
الهمة عن دينه وإيثاره إياه، فصارت في دنياه وفي متاعها وغضارتها، وهي أقوى الهمتين
عند الناس اليوم إل أهل الدين والزهد في الدنيا. وقد كان أصحاب رسول ال صلى ال عليه
وسلم يرون التمر فيتأولونه حلوة دينهم، ويرون العسل فيتأولونه قراءة القرآن والعلم والبر
وحلوة ذلك في قلوبهم فصارت تلك الحلوة اليوم والهمة في عامة الناس في دينهم
وغضارتها، إل القليل ممن وصفت.
وقد يرى الكافر الرؤيا الصادقة حجة ل عليه، أل ترى فرعون يوسف رأى سبع بقرات كما
أخبر ال تعالى في كتابه فصدقت رؤياه، ورأى بختنصر زوال ملكه وعظيم ما يبتلى به فصدقت
رؤياه على ما عبرها له دانيال الحكيم، ورأى كسرى زوال ملكه فصدقت رؤياه.
فاعرف هذا المجرى في التأويل واعتبر عليه ترشد إن شاء ال تعالى.
مقدمة الستاذ أبو سعيد الواعظ رضى ال عنه
بسم ال الرحمن الرحيم
الحمد ل الذي جعل الليل لباسا، والنوم سباتا، والنهار نشورا، والحمد ل البدي السابق القوي
الخالق الوفي الصادق، الذي ل يبلغ كنه مدحه الناطق، ول يعزب عنه ما تجن الغواسق، فهو
حي ل يموت، ودائم ل يفوت، وملك ل يبور، وعدل ل يجور، عالم الغيوب وغافر الذنوب
وكاشف الكروب وساتر العيوب. دانت الرباب لعظمته، وخضعت الصعاب لقوته، وتواضعت
الصلب لهيبته، وانقادت الملوك لملكه. فالخلئق له خاشعون، ولمره خاضعون، وإليه
راجعون. تعالى الملك الحق ل إله إل هو رب العرش العظيم الكريم. انتخب محمدا من خلقه،
واصطفاه من بريته، واختاره لنبوته، وأيده بحكمته، وسدده بعصمته، وأرسله بالحق بشيرا
برحمته ونذيرا بعقوبته،مباركا على أهل دعوته، فبلغ ما أرسل به، ونصح لمته، وجاهد في
ذات ربه، وكان كما وصفه ربه عز وجل رحيما بالمؤمنين عزيزا على الكافرين، صلوات ال
عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين.
قال الستاذ أبو سعيد الواعظ رضى ال عنه : أما بعد، فإنه لما كانت الرؤيا الصحيحة في
الصل منبئة عن حقائق العمال، منبهة على عواقب المور، إذ منها المرات والزاجرات،
ومنها المبشرات والمنذرات، وكيف ل تكون كذلك وهي من بقايا النبوة وأجزائها، بل هي أحد
قسمي النبوة. فإن من النبياء صلوات ال عليهم من كان وحيه الرؤيا فهو نبي، ومن كان
وحيه على لسان الملك وهو في اليقظة فهو رسول، وهذا هو الفرق بين الرسول والنبي. وقد
أخبرنا أبو علي حامد بن محمد بن عبد ال الرفاء قال : أخبرنا محمد بن المغيرة قال : حدثنا
مكي بن إبراهيم قال : حدثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال
رسول ال صلى ال عليه وسلم : “إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب، أصدقهم رؤيا
أصدقهم حديثا، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، والرؤيا ثلثة : الرؤيا
الصالحة بشرى من ال عز وجل، ورؤيا المسلم التي يحدث بها نفسه، ورؤيا تحزين من
الشيطان. فإذا رأى أحدكم ما يكره، فل يحدث به وليقم فليصل. وقال : أحب القيد وأكره الغل،
القيد الثابت في الدين . وأخبرنا أبو عمرو محمد بن جعفر بن محمد بن مطر قال : حدثنا حامد
بن محمد بن شعيب قال : حدثنا يحيى بن أيوب قال : حدثنا سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن
هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضوان ال عليها قالت: قال رسول ال صلى ال عليه
وسلم: “ل يبقى من بعدي من النبوة إل المبشرات. قالوا يا رسول ال وما المبشرات ؟ قال:
الرؤيا الصالحة يراها الرجل لنفسه أو ترى له”.
أخبرنا أبو عبد ال المهبلي قال : حدثنا محمد بن يعقوب بن يوسف قال : حدثنا العباس بن
الوليد بن مزيد قال : أخبرنا عقبة بن علقمة المعافري قال : أخبرني الوزاعي قال : حدثنا
يحيى بن أبي كثير قال : حدثني أبو سلمة بن عبد الرمن قال : حدثني عبادة ابن الصامت قال :
“سألت رسول ال صلى ال عليه وسلم عن هذه الية }الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى
في الحياة الدنيا وفي الخرة{ )يونس 64-63(، فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم: لقد
سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد غيرك، هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له”.
وأخبرنا أبو سهل بشر بن أحمد بن بشر الفقيه قال : حدثنا جعفر بن محمد الفريابي قال : حدثنا
هشام بن عمار قال : حدثنا صدقة بن خالد قال : حدثني ابن جابر قال : حدثني عطاء
الخراساني قال : حدثني قيس بن ثابت بن شماس قال : “لما أنزل ال تعالى }يا أيها الذين
آمنوا ل ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي{)الحجرات 2( الية، دخل ثابت بن قيس بيته وأغلق
عليه بابه وطفق يبكي، ففقده النبي صلى ال عليه وسلم فأرسل إليه فسأله فقال : إني رجل
شديد الصوت أخاف أن يكون قد حبط عملي. قال : لست منهم، تعيش بخير وتموت بخير. قال
ثم أنزل ال تعالى }إن ال ل يحب كل مختال فخور{)لقمان 3 والحديد 23( فأغلق عليه بابه
وطفق يبكي، ففقده النبي صلى ال عليه وسلم فأرسل إليه فأخبره فقال : إني أحب الجمال
وأحب أن أسود قومي. قال : لست منهم، بل تعيش حميدا وتقتل شهيدا ويدخلك ال الجنة. قال :
فلما كان يوم اليمامة خرج مع خالد بن الوليد إلى مسيلمة الكذاب، فلما التقوا انكشفوا، فقال
ثابت وسالم مولى أبي حذيفة : ما هكذا كنا نقاتل على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم، ثم
حفر كل واحد منهما حفرة، فأتيا فقاتل حتى قتل. وعلى ثابت يومئذ درع نفيسة، فمر به رجل
من المسلمين فأخذها. فبينما رجل من المسلمين نائم، إذ أتاه قيس بن ثابت فقال : إني أوصيك
بوصية، إياك أن تقول هذا حلم فتضيعه، إني لما قتلت أمس مر بي رجل من المسلمين ومنزله
في أقصى الناس وعند خبائه فرس يستن في طوله وقد ألقى على الدرع برمة وفوق البرمة
رحل. فأت خالد بن الوليد فمره فليبعث إلى درعي فيأخذها، فإذا قدمت المدينة على خليفة
رسول ال صلى ال عليه وسلم فأخبره أن علي من الدين كذا وكذا وفلن من رقيقي عتيق.
فأتى الرجل خالد بن الوليد، فاخبره فبعث إلى الدرع فأتي بها وحدث أبا بكر رضوان ال عليه
برؤياه، فأجاز وصيته. ولم نعلم أحدا جيزت وصيته بعد موته غير ثابت بن قيس”.
قال الستاذ أبو سعيد رضى ال عنه : فهذه الخبار التي رويناها تدل على أن الرؤيا في ذاتها
حقيقة وأن لها حكما وأثرا.
وأول رؤيا رؤيت في الرض، رؤيا آدم عليه السلم وهي ما أخبرناه به محمد بن عبد ال بن
حمدويه قال : أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد بن إسحاق قال : حدثنا محمد بن أحمد بن
البراء قال : حدثنا عبد المنعم بن إدريس عن أبيه عن وهب بن منبه قال : أوحى ال تعالى إلى
آدم عليه السلم : إنك قد نظرت في خلقي فهل رأيت لك فيهم شبيها ؟ قال : ل يا رب، وقد
كرمتني وفضلتني وعظمتني، فاجعل لي زوجا تشبهني أسكن إليها حتى توحدك وتبعدك معي.
فقال ال تعالى له : نعم. فألقى عليه النعاس، فخلق منه حواء على صورته وأراه في منامه
ذلك، وهي أول رؤيا كانت في الرض. فانتبه وهي جالسة عند رأسه فقال له ربه : يا آدم، ما
هذه الجالسة التي عند رأسك ؟ فقال له آدم : الرؤيا التي أريتني في المنام يا إلهي .
ومما يدل على تحقيق الرؤيا في الصل أن إبراهيم صلى ال عليه وسلم أُرِيَ في المنام ذبح
ابنه، فلما استيقظ ائتمر لما أمر به في منامه. قال ال عز وجل حكاية عنه }يا بني إني أرى في
المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء ال من
الصابرين{)الصافات 102(. فلما علم إبراهيم عليه السلم برؤياه وبذل جهده في ذلك إلى أن
فرج ال عنه بلطفه علم به أن للرؤيا حكما.
ثم رؤيا يوسف عليه السلم وهي ما أخبرنا محمد بن عبد ال بن محمد قال : أخبرنا الحسن بن
محمد الزهري قال : حدثنا محمد بن أحمد بن البراء قال : حدثنا عبد المنعم بن إدريس قال :
حدثني أبي عن وهب بن منبه أن يوسف بن يعقوب عليهما السلم رأى رؤيا وهو يومئذ صبي
نائم في حجر أحد أخوته وبيد كل رجل منهم عصا غليظة يرعى بها ويتوكأ عليها ويقاتل بها
السباع عن غنمه، وليوسف عليه السلم قضيب خفيف دقيق صغير يتوكأ عليه ويقاتل به
السباع عن غنمه ويلعب به، وهو إذ ذاك صبي في الصبيان. فلما استيقظ من نومه وهو في
حجر أحد أخوته قال : أل أخبركم يا أخوتي برؤيا رأيتها في منامي هذا ؟ قالوا : بلى، فأخبرنا.
قال : فإني رأيت قضيبي هذا غرز في الرض ثم أتي بعصيكم كلها فغرزت حوله، فإذا هو
أصغرها وأقصرها، فلم يزل يترقى في السماء ويطولها حتى طال عصيكم، فثبت قائما في
الرض وتفرشت عروقه من تحتها، حتى انقلعت عصيكم فثبت قائما وسكنت حوله عصيكم.
فلما قص عليهم هذه الرؤيا قالوا : يوشك ابن راحيل أن يقول لنا أنتم عبيدي وأنا سيدكم. ثم
لبث بعد هذا سبع سنين، فرأى رؤيا فيها الكواكب والشمس والقمر فقال لبيه }يا أبت إني رأيت
أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين{)يوسف 4(. فعرف يعقوب تأويل الرؤيا
وخشي عليه إخوته. فالقمر أبوه والشمس أمه والكواكب إخوته. فقال : }يا بني ل تقصص
رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا{)يوسف 5(، وذكر إلى أن قال : }ورفع أبويه على العرش{
)يوسف 100(، يعني أجلسهما على السرير وآواهم اإلى منزله، وخر له أبواه وإخوته سجدا
تعظيما له. وكانت تحية الناس في ذلك الزمان السجود، ولم تزل تحية الناس السجود حتى جاء
ال تعالى بالسلم فذهب بالسجود وجاء بالمصافحة.
ثم إن يعقوب عليه السلم رأى في المنام، قبل أن يصيب يوسف ما فعل إخوته وهو صغير، كأن
عشرة ذئاب أحاطت بيوسف، ويعقوب على جبل ويوسف في السهل، فتعاورته بينهم، فأشفق
عليه. وهو ينظر إليه من فوق الجبل، إذ انفرجت الرض ليوسف فغار فيها وتفرقت عنه
الذئاب، فذلك قوله لبنيه “إني أخاف أن يأكله الذئب” )يوسف 13(.
ثم قصة موسى صلى ال عليه وسلم وهي ما ذكر وهب أن فرعون حلم حلما فظع به وهاله.
رأى كأن نارا خرجت من الشام ثم أقبلت حتى انتهت إلى مصر، فلم تدع شيئا إل أحرقته،
وأحرقت بيوت مصر كلها ومدائنها وحصونها. فاستيقظ من نومه فزعا مرتاعا، فجمع لها مل
عظيما من قومه، فقصها عليهم فقالوا له : إن صدقت رؤياك ليخرجن من الشام رجل من ولد
يعقوب يكون هلك مصر وهلك أهلها على يديه وهلكك أيها الملك. فعند ذلك أمر فرعون بذبح
الصبيان. حتى أظهر ال تعالى تأويل رؤياه ولم تغن عنه حيلته شيئا. وربي موسى عليه السلم
في حجره ثم أهلكه على يديه، عزت قدرته وجلت عظمته.
ثم رؤيا المصطفى صلوات ال وسلمه عليه وهي ما أخبرنا أبو سهل بن أبي يحيى الفقيه قال :
حدثنا جعفر بن محمد الفريابي قال : حدثنا هشام بن عمار قال : حدثنا صدقة قال : حدثنا ابن
جابر عن سليمان بن عامر الكلعي قال : حدثنا أبو أمامة الباهلي قال : سمعت رسول ال صلى
ال عليه وسلم يقول : “بينما أنا نائم إذ أتاني رجلن فأخذا بضبعي فأخرجاني وأتيا بي جبل
وعرا فقال لي : أصعد. فقلت : ل أطيقه. قال : إنا سنسهله لك. قال : فصعدت، حتى إذا كنت في
سواء الجبل إذا أنا بصوت شديد فقلت : ما هذه الصوات ؟ فقال : هذا عواء أهل النار. ثم
انطلقا بي فإذا بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة تسيل أشداقهم دما، فقلت : من هؤلء : قال :
هؤلء الذين يفطرون قبل تحلة صومهم. فقلت : خابت اليهود والنصارى”. قال سليمان : فل
أدري أشيء سمعه أبو أمامة عن النبي صلى ال عليه وسلم أو شيء قال برأيه ؟ “ثم انطلقا
بي فإذا بقوم أشد منهم انتفاخا وأنتنهم ريحا كأن ريحهم المراحيض، فقلت : من هؤلء ؟ قال :
هؤلء الزانون والزواني. قال : ثم انطلقا بي، فإذا بغلمان يلعبون بين نهرين، فقلت : من هؤلء
؟ قال : هؤلء ذراري المسلمين. ثم شرفا بي شرفا، فإذا بنفر ثلثة يشربون من خمر لهم،
فقلت : من هؤلء : قال : هؤلء زيد وجعفر وابن رواحة. ثم شرفا بي شرفا آخر، فإذا بنفر
ثلثة، قلت : من هؤلء ؟ قال : هؤلء إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلم وهم ينتظرونك.”
وأخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن إبراهيم قال : حدثني علي بن محمد الوراق قال : حدثنا
أحمد بن محمد بن نصر قال : أخبرنا يوسف بن بلل عن محمد بن مروان الكلبي عن أبي
صالح عن ابن عباس قال : “سحر رسول ال صلى ال عليه وسلم وأخذ عند عائشة، فاشتكى
لذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم حتى تخوفنا عليه. فبينما هو صلى ال عليه وسلم بين
النائم واليقظان، إذا ملكان أحدهما عند رأسه والخر عند رجليه. فقال الذي عند رأسه للذي
عند رجليه : ما شكواه ؟ -ليفهم عنهما صلى ال عليه وسلم- قال : طب.ّ قال : من فعله به ؟
قال : لبيد بن العصم اليهودي. قال : أين صنعه ؟ قال : في بئر ذروان. قال : فما دواؤه ؟ قال
: يبعث إلى تلك البئر فينزح ماؤها، ثم ينتهي إلى صخرة فيقلعها، فإذا فيها وتر في كربة عليها
إحدى عشرة عقدة فيحرقها، فيبرأ إن شاء ال تعالى. أما انه بعث إليها استخرجها. قال :
فاستيقظ صلى ال عليه وسلم وقد فهم ما قيل له، فبعث عمار بن ياسر ورهطا من أصحابه إلى
تلك البئر وقد تغير ماؤها كأنه ماء الحناء. قال : فنزح ماؤها ثم انتهى إلى الصخرة فاقتلعها
فإذا تحتها كربة وفي الكربة وتر فيه إحدى عشرة عقدة، فأتوا به رسول ال صلى ال عليه
وسلم. فنزلت هاتان السورتان {قل أعوذ برب الفلق})الفلق 1( و {قل أعوذ برب الناس}
)الناس 1(، وهما إحدى عشرة آية، فكلما قرأ آية انحلت عقدة. فلما حل العقد، قام النبي صلى
ال عليه وسلم فكأنما نشط من عقال. قال : وأحرق الوتر. قال : وأمر النبي صلى ال عليه
وسلم أن يتعوذ بهما، وكان لبيد يأتي رسول ال صلى ال عليه وسلم فما ذاكره النبي صلى ال
عليه وسلم ول رؤي في وجهه شيء.
فهذه جملة دالة على تحقيق أمر الرؤيا وثبتها في أخبار كثيرة يطول الكتاب بذكرها
قال الستاذ أبو سعيد رضي ال عنه : لما رأيت العلوم تتنوع أنواعا، منها ما ينفع في الدنيا
دون الدين، ومنها ما ينفع فيهما جميعا، وكان علم الرؤيا من العلوم النافعة دينا ودنيا،
استخرت ال في جمع صدر منه، سالكا نهج الختصار، مستعينا بال في إتمامه على ما هو
أرضى لديه وأحب إليه، ومستعيذا به من وباله وفتنته، وال تعالى ولي التوفيق وهو حسبنا
ونعم الوكيل.
قال الستاذ أبو سعيد : يحتاج النسان إلى إقامة آداب لتكون رؤياه أقرب إلى الصحة. فمنها أن
يتعود الصدق في أقواله، لما روى عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال “أصدقكم رؤيا
أصدقكم حديثا”. ومنها أن يحافظ على استعمال الفطرة جهده، فقد روى عن النبي صلى ال
عليه وسلم أنه كان يسأل أصحابه كل يوم : هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا ؟ فيقصونها عليه
فيعبرها لهم. ثم سألهم أياما فلم يقص عليه أحد منهم رؤيا، فقال لهم : كيف ترون وفي أظفاركم
الرفغ ؟ وذلك أن أظفارهم قد طالت وتقليمها من الفطرة. ومنها أن ينام على طهر، وقد روى
عن أبي ذر رضي ال عنه قال : “أوصاني خليلي بثلث ل أدعهن حتى أموت: صوم ثلثة أيام
من كل شهر، وركعتي الفجر، وأن ل أنام إل على طهر”. ومنها أن ينام على جنبه اليمن، فإن
النبي صلى ال عليه وسلم كان يحب التيامن في كل شيء، وروى أنه كان ينام على جنبه
اليمن ويضع يده اليمنى تحت خده اليمن ويقول: “اللهم قني عذابك يوم تجمع عبادك”.
وروى أن عائشة رضي ال عنها كانت إذا اتخذت مضجعها قالت : “اللهم إني أسألك رؤيا
صالحة صادقة غير كاذبة نافعة غير ضارة حافظة غير ناسية”. وفي بعض الخبار أن من سنة
النائم أن يقول إذا أوى إلى فراشه : اللهم إني أعوذ بك من الحتلم، وسوء الحلم، وأن
يتلعب بي الشيطان في اليقظة والمنام”.
ثم الرؤيا على ضربين، حق وباطل. فأما الحق، فما يراه النسان مع اعتدال طبائعه واستقامة
الهواء، وذلك من حين تهتز الشجار إلى حين يسقط ورقها، وأن ل ينام على فكرة وتمني شيء
مما رآه في منامه. ول يخل بصحة الرؤيا جنابة ول حيض. وأما الباطل منها، فما تقدمه حديث
نفس وهمة وتمن ول تفسير لها، وكذلك الحتلم الموجب للغسل جار مجراه في أنه ليس له
تأويل، وكذلك رؤيا التخويف والتحزين من الشيطان، قال ال تعالى: }إنما النجوى من الشيطان
ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إل بإذن ال{)المجادلة 10(. ثم إن من السنة خصال،
يعملها الذي يرى في منامه ما يكره : يتحول عن جنبه الذي نام عليه إلى الجنب الخر، ويتفل
عن يساره ثلثا، ويستعيذ بال من الشيطان الرجيم، ويقوم فيصلي، ول يحدث أحدا برؤياه. وقد
روى “أن رجل أتى النبي صلى ال عليه وسلم فقال : يا رسول ال إنني أرى في المنام رؤيا
تحزنني. فقال عليه السلم : وأنا أيضا أرى في المنام ما يحزنني، فإذا رأيت ذلك فاتفل عن
يسارك ثلثا، وقل : اللهم إني أسألك خير هذه الرؤيا وأعوذ بك من شرها”. ومن ذلك أضغاث
أحلم، وهي أن يرى النسان كأن السماء صارت سقفا ويخاف أن يقع عليه، وأن الرض رحى
تدور، أو نبت من السماء أشجار، وطلع من الرض نجوم، أو تحول الشيطان ملكا والفيل نملة،
وما أشبه ذلك ول تأويل لها. ومن ذلك رؤيا يراها النسان عند تشويش طبائعه. كالدموي يرى
الحمرة، والمرطوب يرى الرطوبة، والصفراوي يرى الصفرة، والسوداوي يرى الظلمات
والسواد، والمحرور يرى الشمس والنار والحمام، والمبرود يرى البرودات، والممتلئ يرى
الشياء الثقيلة على نفسه. فهذا النوع من الرؤيا ل تأويل له أيضا.
ثم إن أصدق الرؤيا ما كانت في نوم النهار أو نوم آخر الليل. فقد روى أن النبي صلى ال عليه
وسلم قال : “أصدق الرؤيا ما كان بالسحار”، وروى أنه قال : “أصدق الرؤيا رؤيا النهار لن
ال تعالى أوحى إلي نهارا”. وحكي عن جعفر بن محمد الصادق عليهما السلم أنه قال :
“أصدق الرؤيا رؤيا القيلولة” .
قال الستاذ أبو سعيد رضي ال عنه : ولصاحب الرؤيا آداب يحتاج إلى أن يتمسك بها، وحدود
ينبغي أن ل يتعداها وكذلك للمعبر. فأما آداب صاحب الرؤيا، فأن ل يقصها على حاسد، وذلك أن
يعقوب عليه السلم قال ليوسف {ل تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا})يوسف 5(.
ول يقصها على جاهل، فقد روي عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال : “ل تقصص رؤياك
إل على حبيب أو لبيب”. وأن ل يكذب في رؤياه، فقد روى أن النبي صلى ال عليه وسلم قال :
“من كذب في الرؤيا، كلف يوم القيامة عقد شعيرتين”. ول يقصها إل سرا كما رأى سرا، ول
يقصها على صبي أو امرأة. والولى أن يقص رؤياه في إقبال السنة وفي إقبال النهار دون
إدبارهما. وأما آداب المعبر، فمنها أن يقول إذا قص عليه أخوه رؤيا “خيرا رأيت”. فقد روي
أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان إذا قصت عليه رؤيا يقول “خيرا تلقاه وشرا تتوقاه،
وخيرا لنا وشرا لعدائنا، الحمد ل رب العالمين، أقصص رؤياك”. ومنها أن يعبرها على
أحسن الوجوه، فقد روي أن النبي صلى ال عليه وسلم قال : “الرؤيا تقع على ما عبرت”.
وروي أنه قال : الرؤيا على رجل طائر ما لم يحدث بها، فإذا حدث بها وقعت”. ومنها أن
يحسن الستماع إلى الرؤيا، ثم يفهم السائل الجواب. ومنها أن يتأنى في التعبير ول يستعجل
به. ومنها أن يكتم عليه رؤياه فل يفشيها، فإنه أمانة. ويتوقف في التعبير عند طلوع الشمس،
وعند الزوال، وعند الغروب. ومنها أن يميز بين أصحاب الرؤيا، فل يفسر رؤيا السلطان حسب
رؤيا الرعية، فإن الرؤيا تختلف باختلف أحوال صاحبها. والعبد إذا رأى في منامه ما لم يكن له
أهل فهو لمالكه لنه ماله. وكذلك المرأة إذا رأت ما لم تكن له أهل فهو لزوجها لنها خلقت من
ضلعه. وتأويل رؤيا الطفل لبويه. ومنها أن يتفكر في رؤيا تقص عليه، فإن كانت خيرا عبرها
وبشر صاحبها قبل تعبيرها، وإن كانت شرا أمسك عن تعبيرها أو غيرها على أحسن
محتملتها، فإن كان بعضها خيرا وبعضها شرا عارض بينهما ثم أخذ بأرجحهما وأقواهما في
الصول. فإن أشكل عليه، سأل القاص عن اسمه، لما روى أن النبي صلى ال عليه وسلم قال :
“إذا أشكل عليكم الرؤيا فخذوا بالسماء”، وبيانه أن أسم سهل سهولة، وسالم سلمة، وأحمد
ومحمد محمدة، ونصر نصرة، وسعاد سعادة. وأيضا يعتبر في ذلك ما يستقبله في ذلك الوقت،
فإن استقبلته عجوز فهي دنيا مدبرة، وإن استقبله برذون أو بغل أو حمار فهو سفر لقوله
تعالى : }والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة{)النحل 8(. وإن سمع في ذلك الوقت نعيق
الغراب واحدة أو ثلثا أو أربعا أو ستا فهو خير، فأما الربع فيسقط منها واحدة فيبقى ثلثة
والست خير ل يسمعها إل الكابر، وإن سمع اثنتين فل يستحب. وحكي عن ابن عباس أنه قال :
إذا نعق الغراب ثلثا فهو خير وبالفارسية ديك، وإذا نعق الغراب اثنتين فهو شر وبالفارسية بد.
ويكره أن يقص الرؤيا يوم الثلثاء لنه يوم إهراق الدماء، ويوم الربعاء لنه يوم نحس
مستمر، ول يكره سائر اليام.
وفي هذا القدر الذي صدرنا به كتابنا غنيمة لمن تدبره وتأمل معانيه، إذ لو بسطناه لدى إلى
البرام والملل. وأرجو ال تعالى أن ينفعنا به ويعيذنا من علم ل ينفع، وبطن ل يشبع، ونفس ل
تخشع، ودعاء ل يسمع، ومن طبع يهدى إلى طمع، ومن طمع حيث ل مطمع، إنه تعالى القادر
على ما يشاء الفعال لما يريد وحسبي ال ونعم الوكيل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى